المادة    
  1. الأشعرية في باب الإيمان من الغلاة

    إذاً: فهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم؛ مع أن الأشعرية في باب الإيمان يعدون من المرجئة الغلاة ، وقد حددنا أن المرجئ الغالي هو الذي يجعل الإيمان شيئاً واحداً، أي: على عضو واحد، فـالكرامية مرجئة غلاة؛ لأن الإيمان عندهم هو قول باللسان فقط.
    ومن المرجئة الغلاة : الأشعرية و الجهمية ؛ فهو عندهم شيء واحد وهو: المعرفة، أو التصديق بالقلب، فمن قال: بالقلب فقط، أو باللسان فقط؛ فهو مرجئ غالٍ؛ فالفقهاء لما قالوا: الإيمان بالقلب مع اللسان؛ صاروا وسطاً، وأهل السنة يقولون: هو القلب واللسان والجوارح، وهذا هو الحق.
    إذاً فـالأشعرية كان المفروض أن يرون تحريم الاستثناء في الإيمان؛ لأنه شيء واحد، لكنهم يقولون بالاستثناء.
  2. تناقضات المذهب الأشعري

    وهناك شيء مهم أرجو أن تتنبهوا له وهو: أن المذاهب الأخرى غير عقيدة أهل السنة والجماعة تتطور وتتغير وتتداخل وتتمازج، كما رأينا في مبحث الصفات وتطور مذهب الأشعرية فيها، وكذلك هذه المسألة، فمن الأشعرية القدامى طائفة خالفت كلام الطائفة المعتمدة -ومنهم أبو الحسن- في موضوع الإيمان، وقالوا: إن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل كما قال السلف، وكان منهم من خالف في بعض النصوص الأصول أيضاً ومنها هذه المسألة التي راعى فيها ابن كلاب موضوع الموافاة، فـالأشعرية في مسألة الموافاة اتبعوا كلام ابن كلاب ، فأوجبوا الاستثناء، مع أنه متناقض وأما الذين بقوا على الأصل من المرجئة فهم الذين قال فيهم الشيخ: (وأما من يحرمه فهم من جعل الإيمان شيئاً واحداً) لكنهم تناقضوا.
    وليس هذا بالتناقض الوحيد في مذهب الأشعرية ؛ لأنه مذهب تركيبـي توفيقي كما يسمونه، فهو مركب من عدة مذاهب، فجملة من مسائله مأخوذة من مذهب المعتزلة ، وجملة مأخوذة من مذهب الجهمية ، وجملة مأخوذة من كلام السلف، فتركب منها المذهب الأشعري فصار متناقضاً، وأما المعتزلة فقد مشوا على منهج واحد معروف ومحدد، وأهل السنة والجماعة في مقابلهم كذلك، فلا تناقض عندهم ولا اضطراب في أي مسألة على الإطلاق أبداً كما سنبين إن شاء الله تعالى؛ وحتى الاختلاف في الاستثناء في الإيمان فإن لكل قول اعتبار وتعليل، وكلاهما على الحق، فلا تناقض ولا اضطراب.
    والأشعرية لما أخذوا من هذا تارة ومن هذا تارة وقعوا في الاضطراب والتناقض، فهم يقولون: إن الإيمان شيء واحد؛ ومع ذلك فهم يوجبون الاستثناء، فإذا قيل لهم: كيف تجعلونه شيئاً واحداً، ثم توجبون الاستثناء؛ فإنه إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله؛ وهو شيء واحد فماذا بقي عنده؟ قالوا: هذا باعتبار الموافاة على الغالب كما في كلام شيخهم أبي بكر الباقلاني ، فإنه يقول: هذا باعتبار الموافاة، فنحن لا ندري بما يوافي به العبد ربه، فعليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لاحتمال أن يموت على غير الإيمان.
  3. قول الأشاعرة: إن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه سيسلم والعكس

    وهنا تأتي قضية مهمة ينبغي ألا تخفى، وهي قوله: (وعند هؤلاء الذين يوجبون الاستثناء -أي: الأشعرية الكلابية -: أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً) وفي المقابل يبغض إبليس ومن ارتد عن دينه وإن كان لا يزال مؤمناً. وهذا يرجعنا إلى حقيقة المحبة عندهم، وقد يدور في ذهن بعضكم ويقول: كيف يقول ابن تيمية: إن الأشعرية الكلابية يقولون: إن الله يحب ويبغض وهم لا يثبتون صفة المحبة، ولا يثبتون صفة البغض!
    إذاً فالمحبة والبغض لهما معنى آخر عندهم، فهذا هو الذي اختصره الشيخ هنا، وأما شيخ الإسلام فأفاض فيه، لكن لغموضه تركه الشيخ رحمه الله، فلم يأتِ به، فالمحبة عندهم هي: إرادة الإنعام، أو إرادة الثواب، والبغض: هو إرادة الانتقام، فإذا كان الأمر كذلك فإن الله ينعم عليه، وينتقم منه باعتبار الموافاة، فإما أن ينعم عليه ويثيبه بالجنة إن وافاه بالإيمان، وختم له بذلك، وإما أن ينتقم ويعذبه على الكفر إن وافاه به، ومن هنا عرفنا العلاقة بين قولهم بالموافاة، وقولهم بأن الله يحب من كان الآن كافراً إذا كان يعلم أنه سوف يموت على الإيمان، ويبغض من كان مؤمناً الآن إذا كان يعلم منه أنه سيموت على الكفر، فالمسألة هي في الإنعام والانتقام، وهذا أمر لا يكون إلا بعد الموافاة، فتعلق الأمر به.
    قال الشيخ: (وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إيمانهم)، أي: حتى من كان يقاتل منهم النبي صلى الله عليه وسلم في بدر ، في أحد ، في حنين ، ولكنه سوف يسلم في آخر عمره فإنه محبوب عند الله؛ لأن الله يعلم أنه سوف يسلم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان الآن على الطاعة، فيرون أن الله ينزه عن المحبة وعن البغض، والمحبة والبغض هنا على التأويل الذي ذكرناه سابقاً، أي: أنه يريد إنعامه، أو يريد الانتقام منه، وهناك مبدأ باطل بنى عليه هؤلاء نفيهم لصفات الله الاختيارية، فيقولون: إن المحبة، والرحمة، والانتقام، والغضب هي من صفات المخلوقين، فالرحمة مثلاً: هي انكسار ورقّة، والله تعالى يتنزه عن ذلك، والغضب: هو فوران وغليان الدم.. إلى آخر ما يقولون، والله يتنزه عن ذلك، وحاشى لله -في زعمهم- أن يكون هناك فعل من المخلوق، يؤثر في الخالق.
    فلو فعل العبد طاعة فأحبها الله وأحبه فمعنى هذا -في عقولهم ونظرهم-: أن العبد يفعل أشياء تؤثر في الله، فيقولون: إن الله تعالى أجل وأسمى من أن يتأثر بما يفعله المخلوقون، وانظر إلى هذا الفهم السقيم.
    وهذا يشبه إلى حد ما كلام فلاسفة اليونان ، فـأفلاطون يقول: إن الله تعالى كامل، والكامل لا يهتم بالناقص، أي: أن الله تعالى لا دخل له في هذا الكون أبداً، فالعقول العشرة هي التي تدبر الكون، فهو خلق العقل الأول، والأول خلق الثاني، والثاني خلق الثالث .. إلى العاشر، والعقل الكلي خلق النفس الكلية، والعقل الكلي والنفس الكلية يدبران الكون، وأما هو تعالى فلا يتدخل في ذلك؛ لأنه كامل.
    والرافضة قالوا: إن الإمام المنتظر وغيره قد فوض الله إليهم الكون، والصوفية يقولون: إن الله تعالى أعطى مفاتيح الكون والأقاليم السبعة للشيخ عبد القادر ، والشيخ أحمد البدوي ، والشيخ الرفاعي؛ فكل واحد منهم يدبر الكون، ويدبر إقليم منها، فهؤلاء أرجعوا الفلسفة اليونانية التي تقول: إن الله تعالى كامل، ولا يمكن أن يتأثر، ولا يكون له علاقة بالناقص وهو الكون، فيعطلون الله تعالى عن حكمه وتدبيره وملكه وتصريفه فهو الذي بيده الملك سبحانه وتعالى، والجاهليون كانوا يقولون إن الله هو الذي يدبر الأمر، ويحيي ويميت، وهو الرزاق، وهو الخالق، وجاء هؤلاء بكفر لم يقله أحد من قبل بسبب هذا الأصل الخبيث وهو: أن الخالق لا يتأثر بفعل المخلوق.
  4. الرد على الأشاعرة في نفيهم للصفات الفعلية

    فنقول: إن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ومن قال لكم: إن رحمته وغضبه وإرادته وسمعه وبصره مثل صفات المخلوقين؟! نحن لا نقول بهذا، والأدلة معنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لله أفرح بتوبة عبده إذا تاب من رجل ضلت عليه دابته في أرض فلاة... ) الحديث الذي تقدم إيضاحه، فالله تعالى يفرح بتوبته بعدما يتوب، وفي أثناء المعصية كان الله تعالى غضباناً عليه، فإذا تاب فرح الله تعالى بتوبته، فهذا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قال: ( أنا أعلمكم بالله، وأتقاكم له )، وهو كذلك صلى الله عليه وسلم، فهو أعلم الخلق بالله، وأتقاهم له، فكيف تزعمون أنكم تنزهون الله تعالى عما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؟!
    وقولهم هذا ليس هو قول السلف.
  5. القول بأن وجوب الاستثناء في الإيمان هو مذهب السلف

    وقد ذكر شيخ الإسلام أن الذين يوجبون الاستثناء يقولون: إن هذا هو قول السلف، فنقول: نعم هناك من السلف من كان يرى الاستثناء؛ لكن ليس هذا التعليل وهذا المأخذ الذي بنيتم عليه قولكم من كلام السلف، ولا كان هذا هو رأيهم، فقد اشتهر عند هؤلاء المتأخرين من الكلابية الأشعرية : أن السلف يستثنون في الإيمان، وهذا حق وارد عن بعضهم كما ذكرنا، فأرادوا أن ينتصروا لمذهب السلف من غير وجهه؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن كثيراً ممن يتصدى لنصرة دين الإسلام لا يكون عليماً ولا عارفاً بمذهب السلف، ولا عارفاً بمأخذه، ولا بوجه استدلاله، فيستدل له من عنده فيكون قد استدل على الحق بدليل باطل، فيؤدي هذا إلى فتنة المخالف، فيأتي المخالف فيقول: هذا الدليل باطل.
    وإلى الآن وهذا الأمر موجود، فكثير من طلبة العلم يعلم أن بعض العلماء في القديم أو الحديث يقولون بكذا، وهذا الأمر واضح، فيرى أن حكم هذا الأمر هو الحرمة أو الوجوب، أو يرى أن هذا الحديث مثلاً صحيح أو ضعيف، ويأتي هذا التابع أو التلميذ فيعلل بتعليل من عنده وليس من تعليل ذلك الشيخ، فيأتي الآخر فيقول: ما دام هذا التعليل كذا فهذا باطل، فيصر على أنه حرام وهو حلال في الحقيقة، أو أن الحديث ضعيف وهو صحيح في الحقيقة؛ لأنه لما رأى ضعف الدليل فإنه استنتج ضعف المدلول، فهذا أصل مهم جداً، فكل منا لا بد أن يهتم وأن يدافع عن عقيدة الإسلام، وعن الحق، ولا ينبغي لشخص أن يدافع عن الحق وهو لا يعرف الاستدلال عليه، وإن كان هو الحق لا شك فيه؛ لأن هذا يؤدي إلى أن يستظهر عليه أهل الباطل، فيظهرون على ضعف الدليل، ويستدلون به على بطلان المدلول والدعوى.
    يقول: (ليس هذا قول السلف، ولا كان يعلل بهذا من يستثني من السلف في إيمانه) إذاً: فليس قول السلف هو وجوب الاستثناء مطلقاً، ولا كان من يستثني من السلف من كان يعلل استثناء بهذه التعليلات التي تزعمون، والكلام فاسد، واستدل على ذلك بآية، هذا الاستدلال وجاهته ظاهرة، وهو قوله تبارك وتعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ))[آل عمران:31]، قال الحسن البصري رحمه الله تعالى وغيره من السلف ادعى قوم محبة الله، وممن ادعى ذلك اليهود و النصارى فقد قالوا: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ))[المائدة:18] وكذلك المشركون، ويدعون أنهم يعظمون شعائر الله، وكعبة الله، وحرمات الله.. وهكذا، فالدعوى سهلة وكل يدعيها، فأنزل الله آية امتحان: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ))[آل عمران:31].
    يقول الشيخ: (فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط) عند جميع العقلاء.
    فالآية هذه تبين فساد قولهم؛ فهم يقولون: إن الله الآن يحب هذا الكافر؛ لعلمه أنه سوف يسلم، فنقول نعم، فالله تعالى يقول: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) فتترتب المحبة على الاتباع، فهو الآن لم يتبع فهو مبغض، فإن اتبع أحبه الله، فإذا وقع منه الاتباع نال المحبة، فدائماً يكون المشروط متأخراً عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة كما ذكرنا في حديث الفرح وغيره.
    فالمهم أن قولهم هذا ليس هو مذهب السلف، ولا مأخذ السلف القائلين بالاستثناء، ولا يقولون بوجوبه، فحينما تناقضوا واضطربوا تبين لنا أن هذا ليس من كلام السلف؛ لأن السلف الصالح لا يتناقضون ولا يضطربون أبداً.